قتل الأم: بحث في رمزية حضور الأم في الرواية العربية في حقبة ما بعد الاستعمار (1)
مدخل نظري
في هذه المقالة تكثيف لانشغال نظري بحضور الأم في الرواية العربية، نجم أول الأمر عن رصد هذا الظهور ومحاولة إيجاد أنماط له، ثم من تركيز النظر في الروايات ما بعد الكولونيالية لفحص نمط ظهور متوتر للأم متلازم مع وجود المرأة البيضاء. ما أوصل إلى اقتراح مقاربة نظرية معتمدة على الروايات المحللة ثم محللة لها. وكان البدء في نقاش لطروحات فانون المساجلة لفرويد ومحاولة تطوير استطالات لها.
بين فانون وفرويد
يقوم شطر كبير من تحليل فانون للمستعمَرين على سجال ضمني وصريح مع طروحات فرويد في التحليل النفسي، ووسط حالة من الاستدراكات والاقتراحات التي يراها أنسب لموضوع دراسته. ويبرز الرأي القائل إن فانون يتوجه إلى نظرية التحليل النفسي الفرويدية لمساعدته في فهم نظرة الأشخاص الملونين إلى أنفسهم وإلى العالم، وفي ترسيم وسائل لتقويض عقدة النقص والعالم الذي يصنعها (فانون المخيلة،88) ويطرح فانون تساؤله بكل وضوح: "إلى أي حد يمكن استعمال استنتاجات فرويد أو آدلر في محاولة تفسير رؤية الإنسان الملون للعالم؟" (بشرة سوداء، 153).
وواحدة من نقاط اعتراض فانون الأساسية على تحليل فرويد، أو على الأقل اختلافه مع تحليل فرويد، هي انبناء تحليله النفسي على الأسرة البرجوازية في السياق الأوروبي، وعدم تفكيره أو انشغاله وتحليله لما يقع خارج المركز الأوروبي. وهذا ما جلب الكثير من السجال والتعليق على قدرة التحليل النفسي على التوسع خارج هذه الأطر، بحيث يغدو تحليلا نفسيا غير مركزاني، ويكتسب شمولا كونيا. ويفيد هنا إيراد قول فانون: "لا فرويد ولا آدلر ولا حتى يونغ الكوني، فكروا بالسود في مجريات أبحاثهم" (بشرة سوداء، 163)
وبالنظر إلى المساحة بين فانون وفرويد يتبدى مستويان رئيسيان من الاختلاف، الأول مبدئي – إن صح التعبير- ويتعلق بالافتراضات الأولية، والثاني تفصيلي أو لاحق على الأول. والأول يجمله فانون بقوله: "التحليل الذي نقوم به هو تحليل سيكولوجي، مع ذلك يبقى بنظرنا أن التحرير الحقيقي للأسود يستوجب استيعاء للوقائع الاقتصادية والاجتماعية بالغة الصعوبة، فإن كان ثمة عقدة نقص لدى الأسود فهي حصيلة مسارين، اقتصادي أولا، وتاليا بالاستبطان أو نسب هذه الدونية إلى لون البشرة .. طالب فرويد بالتحليل النفسي وبأن يؤخذ العامل الفردي في الاعتبار وباعتماد نظرة تطورية فردية في التحليل، وسنرى أن انسلاب الأسود ليس مسألة فردية، فإلى جانب تطوره كفرد هنالك تكونه الاجتماعي" (بشرة سوداء، 13-14) وهذا على مستوى عام أو مبدئي.
أما نقطة الخلاف الأساسية في المستوى الثاني فهي إنكار فانون لعقدة أوديب خارج السياق الأوروبي، وعدم رؤيتها فاعلة في مجتمع الأنتيل الذي يُخضعه للدراسة، و"بإثارة فانون التساؤل بشأن شمولية عقدة أوديب فإنه لا يتخلى عن فائدة استعمال التحليل النفسي الفردي، لكن الكلام على العصاب في مجتمع مستعمَر مع إغفال السياق الاجتماعي سيكون تضليلا فظيعا" (فانون المخيلة، 91) بالنسبة إلى فانون، مع التأكيد على أن تحليل فانون للعصاب في مجتمع الأنتيل يجزم بكونه ما قبل أوديبي واجتماعيا، والبنية الأسرية ليست مصدره الرئيس، فـ "عقدة أوديب شاؤوا أم أبوا – يقصد فرويد وآدلر ويونغ (2)- ليست وشيكة الظهور لدى الزنوج" (بشرة سوداء، 163) وهنا ترد مقولة فانون الأهم في هذا السياق فـ"المجتمع الأنتيلي عصابي لأنه مجتمع مقارنة" (بشرة سوداء،226)، بل يجزم فانون قائلا "إن كل عصاب، كل سلوك لاسوي، كل شبوب عاطفي لدى آنتيلي هو حصيلة وضع ثقافي" (بشرة سوداء، 164)
ولذلك نجد فانون يستخدم المفاهيم والمصطلحات القارة في التحليل النفسي وكذلك منهجياته، ولكن ضمن وعي بالسياق الاجتماعي والاقتصادي لحالة الاستعمار، وصولا لاقتراح تصور عن المستعمرين وعلاقتهم بالمستعمرين، والإفادة من التحليل النفسي له. ويعمل في مسعاه ذاك على مستويين، من المهم التنبه لهما هنا، فهو يضيف إلى بحوثه في التحليل النفسي العيادي مع الأنتيليين، تحليلا نفسيا لنماذج أدبية ونصوص روائية تخدم تحليله وصكه للمفاهيم. وهو إلى حد بعيد يزاوج بين بحوثه العيادية وبحوثه في النصوص. وهذا ما يتجلى بأوضح صوره في كتابه الشهير "Black Skin, White Masks" والذي يضع له فانون غاية رئيسة محددة "محاولة فهم علاقة الأبيض بالأسود، الأبيض المنغلق على بياضه، والأسود المنحبس في سواده" (بشرة سوداء، 12)، وهنا محاولة واقتراح استطالات واستكمالات للتحليلات الواردة في كتاب فانون.
وهنا من المفيد واستباقا لأي لبس لا بد من إضافة تقييم مهم لمنهجية فانون في كتابه وتصلح كإطار عام لجهد فانون وغايات بحثه، حين يقول غبسون: "إن منهجية فانون في كتابه هي منهجية نزيهة للغاية، فبحسبها يغدو العرق هو العدسة التي يتم من خلالها الحكم على العلاقات الاجتماعية والنظريات الراهنة، وتتضح استقامة منتهجيته في وصفه "التجربة المعاشة" التي يخبرها الأسود الذي لديه بعدان، طريقتان للعيش، واحدة مع أبناء جلدته، والأخرى مع الرجل الأبيض ... وهذا السلوك ليس أنطولوجيا (وجوديا) بل هو نتاج العلاقات الاستعمارية الكولونيالية" (فانون المخيلة، 51) يضاف إلى ذلك تنقّل فانون في تحليله بين الملون والأسود والزنجي وكثيرا استخدام توصيفات محلية أو تنسب المحللين إلى بلدانهم أو مناطقهم، والحال هنا وبما أن مسألة العرق هي المركزية، والأبيض في مركز الرؤية بالنسبة للآخرين – كل الآخرين- والسياق هو السياق الكولونيالي الذي جعل كل هذا واقعا وأسس بنيته الاجتماعية، فإننا نتخفف هنا من الفوارق بين مجمل هذه المفردات مع وعي كامل بعدم ارتكاب مغالطات وتعميمات قاصرة، ومع الإشارة المستمرة إلى نقاط التفريق حين الحاجة إليها. مجال التحليل هنا هو السياق الكولونيالي وما بعده، والعلاقات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية بين مستعمر ومستعمر لا يزالان يعايشان تركة الاستعمار الثقيلة، وتحديدا على المستوى النفسي القائم على بنية اجتماعية واقتصادية يعاد إنتاجها.
وواحدة من المستويات المهمة – المركزية هنا- والتي يتناولها فانون لفحص العلاقة النفسية بين المستعمرين والمستعمرين، هي علاقة الرجل الملون بالمرأة البيضاء.
"الإنسان الملون والبيضاء" (4)
يبدأ فانون هذا الفصل بالاقتباس التالي:
"من الجزء الأكثر سوادا في نفسي، عبر المنطقة المشطّبة، تتصاعد هذه الرغبة في أن أغدو فجأة أبيض. لا أريد أن يُعترف بي كأسود، بل كأبيض. والحال – وهذا اعتراف لم يصفه هيغل (5)- من يستطيع القيام بذلك سوى البيضاء؟ فهي إذ تحبني إنما تبرهن لي على أني جدير بحب أبيض، يحبونني كأبيض. أنا رجل أبيض. حبها يفتح لي الممر الشهير الذي يفضي إلى الثبات النفسي الكليّ. إنني أتزوج الثقافة البيضاء، الجمال الأبيض، البياض الأبيض. ففي هذه الأثداء البيضاء التي تداعبها يداي المديدتان، أجعل الحضارة البيضاء والكرامة البيضاء حضارتي وكرامتي" (بشرة سوداء، 69) يصرف فانون الجزء الأهم من هذا الفصل في تحليل رواية رينه ماران "Un home pareil aux autres"، مشيرا إلى أنها على ما يبدو سيرته الذاتية (6)، في مقابل تحليله لروايتي أنا مرتينيكية ونيني اللتين دلل بتحليلها على مقولاته الأهم عن علاقة الملونة بالأبيض.
يقول فانون إن بطل الرواية أو شخصيتها الرئيسة جان فنيز يسمح بتعميق الفهم لسلوك الأسود، ومن خلال التحليل يتضح أن فانون يبحث في مستوى الرواية ومستوى الكاتب نفسه، بل إن تحليله بمثابة مراوحة بين المستويين وأول ملاحظاته عن فنيز أنه مثقف انطوائي ويعيش حياته مع الآخر الموجود داخل الكتب، وهذا ما يلحظه رفاقه الذين يقدرونه في هذا الجانب ويطلقون عليه أوصافا إيجابية تبلغ حد القول إنه "يمكن الوثوق به... إنه زنجي كما يراد أن يكون مثله كثير من البيض" (بشرة سوداء، 71)
ويمضي فانون في تحليل شخصية فنيز وصولا إلى وصفه بجمله صفات منها أنه "قلق، ملتصق بجسمه، يحب العزلة، ويريد أن يبيّن للآخرين أنه إنسان وأنه رجل مثلهم، ولكنه غارق في الارتياب"، يقتبس فانون من الرواية "لا أريد أن أسعى لمعرفة أي شيء أو بالأحرى لم أعد أعرف أي شيء سوى شيء واحد، هو أن الزنجي هو إنسان مثل الآخرين، إنسان كالآخرين، وأن قلبه، الذي لا يبدو بسيطا إلا للجاهلين، هو أيضا قلب معقد مثلما يمكن أن يكون قلب الأوروبيين الأكثر تعقيدا" (بشرة سوداء، 73)، ومدار الحديث هنا حب فنيز "الذي ارتقى بذكائه وعمله الدؤوب إلى تفكير أوروبا وثقافتها، ولكنه العاجز عن الهروب من عرقه" (بشرة سوداء، 73)، لآندريه مارييل "البيضاء" وامتناع هذا الحب وتمنعه، حتى شعور فنيز "الذي لا يعترف به الشعب الأبيض ويكاد الأسود ينكره" أنه عاجز عن العيش دون حب، ولذلك سيحلم به (بشرة سوداء، 73). وعلى الرغم من أن مارييل كتبت له بحبها "إلا أنه يجب أن يقول له رجل أبيض: خذ أختي" (بشرة سوداء، 73). وعند طلبه النصح من صديق أبيض تأتيه الإجابات التي تقول صراحة "أنت مثلنا، أنت نحن، أفكارك هي أفكارنا... أنت تعتقد ويعتقدون أنك زنجي؟ خطأ! فانت لا تحمل من ذلك سوى المظهر... أنت تفكر كأوروبي، من الطبيعي أن تحب كما يحب الاوروبي، وبما أن الاوروبي لا يحب سوى أوروبية، فأنت لا تستطيع أن تتزوج سوى امرأة من البلد الذي عشت فيه دوما .. فرنسا بلدك الحقيقي والوحيد" (بشرة سوداء، 74، 75). والنتيجة أن فنيز يستجيب لنصيحة صديقه ويتوسل للرجل الأبيض ليتزوج أخته، وهنا يوافق الأبيض مع اشتراط محدد "لا شيء مشتركا بينك وبين الزنوج الحقيقيين، فأنت لست أسود، إنما أنت أسمر سمارا مفرطا" (بشرة سوداء، 75).
يتابع فانون استنتاجاته المعتمدة على النص المحلل، ليرصد هذه الإشكاليات النفسية لدى الطلبة الملونين في فرنسا، وتحديدا رفض اعتبارهم زنوجا أصليين لأنهم يشبهون الأوروبيين في سلوكهم، ويصل فانون إلى اقتباس يقول: "المولدون العاديون والزنوج، المسعورون من هذا النبذ المهين، ليس لديهم سوى فكرة واحدة منذ أن يصبحوا في أوروبا: إشباع شهيتهم، اشتهائهم للمرأة البيضاء" (بشرة سوداء، 75).
هنا يضيف فانون اقتباسا غاية في الأهمية بالنسبة لنا في هذه المقالة، يقول: "إن معظمهم – عائدة على الاقتباس السابق- ومن بينهم هؤلاء الذين يذهبون غالبا، وهم ذوو بشرة أكثر صفاء، إلى حد إنكارهم بلدهم وأمّهم (التشديد من الكاتب) إنما يتزوجون لإشباع رغبتهم بالهيمنة على الأوروبية، تلك الرغبة المحفَزة بمذاق خاص لثأر متعجرف، أكثر من كونهم يتزوجون بدافع من الحب".(Fanon, 51) ويتبعه فانون باقتباس آخر علمي – إن صح التعبير- "... بعض الرجال أو بعض النساء يتزوجون في الواقع أشخاصا من عرق آخر لهم وضع أوثقافة أدنى من وضعهم وثقافتهم، لم يكونوا ليتخذوهم شركاء لهم في عرقهم الخاص، وهؤلاء يبدو أن ورقتهم الرابحة الرئيسة هي ضمانة الانسلاخ عن الآرض ولـ(تصفية العرق) –هذه الكلمة المرعبة- بالنسبة إلى الشريك. فلدى بعض الأشخاص الملونين تبدو ظاهرة الزواج من شخص أبيض العرق قد تغلبت على كل اعتبار آخر، فهم يجدون فيها وسيلة للوصول إلى مساواة شاملة مع هذا العرق الشهير، السائد على العالم، المهيمن على الشعوب الملونة"(7).
ويمكن المضي طويلا مع اقتباسات فانون المرتبطة بقوة مع مقاربة هذه المقالة، ولكن عند هذا الحد نكتفي بالاقتباس الأخير: "بعدما تحادثنا مؤخرا مع بعض الأنتيليين، علمنا أن الهاجس الأثبت لهؤلاء الذين كانوا يصلون إلى فرنسا كان النوم مع بيضاء. فما إن يصلوا إلى الهافر حتى يتوجهوا إلى البيوتات المغلقة، وبعد إكمال هذه الشعيرة التدريبية على الرجولة – الحقيقية- يركبون القطار إلى باريس" (بشرة سوداء، 79)، عند هذا الحد ننقل إلى الفصل التالي في كتاب فانون لإتمام مجموع المكونات النفسية التي يقابل بها الملون أو الأسود المرأة البيضاء، ففي فصل "حول عقدة تبعية المستعمر المزعومة" يسعى فانون لتفنيد مقولات عديدة جوهرها أن هنالك مكونا نفسيا سابقا على الاستعمار يمكن تعريفه بعقدة دونية لدى المستعمَرين، ويحاجج فانون طويلا برفضه لهذه الطروحات معتبرا أنها تضع المستعمر أمام خيارين لا بديل لهما، إما الدونية أو التبعية، وصولا لقوله إن "العرقي هو الذي يصنع الدوني" (بشرة سوداء، 99)، انطلاقا من كون الدونية هي المقابل المحلي للفوقية الاوروبية. وبكلمات فانون يبدو الأمر على هذه الشاكلة: "عند وصول الأبيض ... أبدأ أتألم من كوني غير أبيض، على قدر ما يفرض الإنسان الأبيض تمييزا علي، يجعلني مستعمَرا، يجردني من كل قيمة، يقول لي إنني أشوش العالم، وإن علي الإسراع قدر المستطاع لمواكبة العالم الأبيض... سأحاول عندئذ بكل بساطة أن أجعل نفسي أبيض.." (بشرة سوداء، 104).
نقاش فانون هنا مكرس بشكل أساسي لرفض مقولات عقدة التبعية السابقة على الاستعمار، ولكنه في السياق نفسه تأكيد على حالة الدونية التي وجد المستعمَرون أنفسهم فيها، وعلى المحاولات الحثيثة للتحرك في سعي طويل نحو بيضاهم المنشود، "عندما يلامس الزنوج العالم الأبيض، يكون هنالك فعل تحسس معين، وإذا تبدلت البنية النفسية هشة، إذ إن هدف فعله سيكون الآخر (في صورة الأبيض) لأن الآخر يسطيع وحده أن يقوّمه" (بشرة سوداء، 166)، وحالة الدونية المفروضة على الأسود وطبيعة العلاقات الاستعمارية التي يحياها تجعله يرى "الوسيلة الوحيدة للخروج من مأزقه هو تخيّل الانضمام إلى عالم البيض أو محاكاة هذا العالم .. ويتم ذلك عبر محاولات حثيثة لكسب اهتمام البيض وموافقتهم" (فانون المخيلة، 27)
وهنا يبدو الرابط جليا بين العلاقة مع البيضاء وهذا التحرك، إذ إن حب البيضاء اعتراف بأهلية الأسود أو الملون ليكون أبيض، بل يمكن أن نقول إنه يبدو ظاهريا بالنسبة للأسود أو الملون طريقا مختصرا للاعتراف والتماهي مع البياض دون خوض الصراع العنيف. كما ناقشه فانون في حالة فينوز الواضحة بشكل كاف، ويمكننا من فهم موقف الملون أو الأسود وهو ينظر إلى البيضاء وما تمثل العلاقة معها.
ننقل الآن إلى الجهة المقابلة، إلى البيضاء وكيف تنظر إلى الملون أو الأسود، وما يمكن أن تهجس به حياله على افتراض أن هنالك سيرا باتجاه علاقة أو لقاء. هنا البيضاء في موقع فوقي، هي في جهة المستعمِر، وهي المسكونة باللاوعي الجمعي بتعبير يونغ، و"لقد تبلور في أعماق اللاوعي الأوروبي هلال أسود جدا .. حيث ترقد أشد النزوات فسادا... أراد الأوروبي رفض غير المتحضر هذا الذي يحاول الدفاع عن نفسه. عندما اتصلت الحضارة الأوروبية بالعالم الأسود، بشعوب المتوحشين هذه، كان الجميع متوافقين: هؤلاء الزنوج كانوا مبدأ الشر" (بشرة سوداء، 202)، فالأوروبي يسقط أسوأ ما في دخيلة نفسه، أو أسوأ احتمالات سلوكه على آخر، حسب كلاسيكيات التحليل النفسي، والآخر هو الأسود هنا، وحسب فانون أيضا فللزنجي في أوروبا "وظيفة تمثيل المشاعر الدنيا، الميول الشريرة، الجانب المظلم في النفس" (بشرة سوداء، 202).
والمرأة البيضاء مسكونة بهذا اللاوعي الجمعي، والذي يراه فانون ثقافيا ومكتسبا وليس وراثيا كما ذهب يونغ، هو مجمل الابتسارات والمفاهيم الشائعة والأساطير والمواقف الجماعية لجماعة معينة (بشرة سوداء، 199)، إلى جانب التأثر العميق برهاب الزنوج أو السود (فوبيا الزنوجة)، والتي يخلفها المكون الثقافي لدى البيضاء وتترسخ من خلال الإعلام والمناهج المدرسية والمرويات الشعبية، والتي يراها فانون تعبيرا مركزا عن عصاب الأوروبي وعقده. (8) ولكن ليست هذه وحسب مكونات نظرة البيضاء إلى الأسود أو الملون القادم إلى المركز، فهي محمّلة أيضا بكثير من التصورات المتصلة بالطاقة الجنسية والغرائبية (9) التي تجعله في أحيان كثير موضوعا جنسيا مرغوبا ومحاطا بكل تهيؤات الغلمة والفحولة، بل إن هنالك صورة متخيلة نتجت عن التنشئة الاجتماعية ويعاد إنتاجها باستمرار حول الأسود الشهواني التناسلي الجنسي وموضوع الاستيهامات والفانتازيا الجنسية (10) "لا نعود نلمح الزنجيّ، بل نرى عضوا، لقد كُيِّف الزنجي فهو عضو" (11)
إن الأسود أو الملون بالنسبة للبيضاء يثير مشاعر وهواجس مزدوجة من الرعب والرغبة (الانجذاب والنفور) عند هذا المستوى، يضاف إليها مكون آخر غير مرتبط بالعلاقة مع الأسود أو الموقف منه، بل هو ناجم عن وضعيتها في العائلة والمجتمع الأبيضين، وهو رزوحها تحت ضغط عقدة أوديب، وهنا نعود لفرويد للقول إن البيضاء تعيش في صراع مستمر مع القيم الأبوية ضمن عائلتها وفي المجتمع ومن ثم السلطة القائمة، وتظل الرغبة بقتل الأب تلحّ عليها كتنفيس أو تغريغ للعقدة الأوديبية والتي تتحول مع الزمن إلى عصاب. ومع أخذ هذا المكون النفسي أيضا في الحسبان تكاد تكتمل لدينا حالة كل من الملون أو الأسود والبيضاء.
برأينا فإن الحلقة الناقصة في التحليل، أو العملية التفصيلية له تقع عند العلاقة بين المرأة البيضاء والأسود أو الملون. مع إدراك فرادة السياق الاجتماعي الاستعماري، ويمكن باقتراحنا إقفال هذه الحلقة عبر تحليل علاقة البيضاء بالأسود أو علاقة الأسود في البيضاء، ويأتي اقتراح البحث هنا في القول إن العلاقة بين البيضاء والأسود هي نقطة التقاء مستوييي التحليل النفسي في السياق الأوروبي "فرويد/آدلر/يونغ" والنفسي الكولونيالي في سياق المستعمرات "فانون".
وللمضي في التحليل والمقولة المفترضة هنا، نبدأ بافتراض حالة التلاقي أو المضي نحو لقاء الملون أو الأسود بالبيضاء، هو يريد نيل الاعتراف من خلال حب البيضاء وإقامة علاقة عاطفية معها، وتجاوز دونيته من خلال هذا الاعتراف، أي يريد التماهي مع الأبيض ويريد أن يكون أبيض تحت ضغط سلوك عصابي تخلفه عقدة نقصه. وهي تبحث عن حل للعقدة الاوديبية وتشابه مع فعل الأبيض الرجل بالمستمعرين، وتؤجج هذه الرغبة الصورة المتخيلة جنسيا عن الأسود أو الملون. ولكن هنالك أيضا ما يفعل فعله خلال هذا التقارب، وهو التوجس من الأصل الهمجي (12) للملون أو الأسود من قبل البيضاء، وخوف الملون أو الأسود من عدم أهليته للاعتراف، وعدم استحقاقه للحب من قبل البيضاء لأنه أسود أو ملون، فهو يرى نفسه وسلوكه وثقافته بيضاء ولكنه باستدخاله للاوعي الجمعي الأوروبي أو الأبيض –لا يقف عند محاكاته بل يتبنى العقل الباطن الأوروبي كأنه عقله الباطن- (فانون المخيلة، 95)، يخاف لاشعوريا من الأسود فيه ويظل يهجس به. وهذه الحال حتى الآن أو على هذا المستوى يبدو أن السكون غير وارد، وأن بقاء هذه الحالة المشحونة على حالها غير ممكن في ظل حاجة ملحة لدى الطرفين للتحرك.
بكلمات أخرى، وفي حالة المرأة البيضاء وبالعودة إلى المرحلة العمرية بين خمس إلى تسع سنوات، يرفض" الأب وقد غدا قطب الليبدو عند الفتاة أن يتبنى العدوان الذي يطلبه منه الشعور الباطني للفتاة الصغيرة (لاوعيها)، وعند هذه النقطة وفي غياب الدعم لهذا العدوان الهائم على وجهه فإنه يتطلب تشغيلا (توظيفا)، وبما أن الفتاة هي في عمر يبدأ الطفل عنده في دخول الفلوكلور والثقافة فإن الأسود يصبح هو العنوان المحتوم للعدوان" (بشرة سوداء، 190-191)، وفي الآن نفسه تتحول عقدة النقص لدى الأسود تجاه الأبيض إلى عصاب (13) يحتاج تشغيلا، ويلتقي مع عصاب البيضاء الناتجة عن الحالة الأوديبية، والمسكونة باللاوعي الجمعي (أو العقل الباطن الجمعي) بتعبير يونغ، والذي يجثم فيه الأسود كهمجي. وفانون يقول صراحة "إن الأسود المستعبد بنقصه، والأبيض المستعبد بتفوقه يسلكان سلوكا متشابها طبقا لتوجه عصابي" (فانون المخيلة، 96)، ومع الأخذ بملاحظة فانون التي يستقيها من فرويد والقائلة بضرورة وجود قناة أو منفذ في كل مجتمع لإطلاق القوى المتراكمة على هيئة عدوان (فانون المخيلة، 89)، يتركز الشكل الأول لهذا الإطلاق حين يقوم الأسود أو الملون بتذويت سلطة السيد الأبيض الأوروبي، ويتبنى موقف الرجل الأبيض حسب فانون، ويسلك سلوكه، أي أن الأسود يذوّت عنف الأبيض ضده كما يرى فانون، بل إن النظام الكولونيالي يحافظ على هيمنته من خلال توجيه عنف الأسود ضد الأسود، وبلغة فانون: فإن "المستعمَر الذي ترسبت في عضلاته روح الهجوم والعدوان إنما يصبّها أولا على ذويه" (معذبو الأرض، 28)، فبينما "نرى المستعمر أو الشرطي يضربان المستعمر من أول النهار إلى آخره ويستطيعان تركيعه وإهانته، نجد المستعمَر يشهر سكينه عند أيسر نظرة عدائية او هجومية يلقيها عليه مستعمر آخر" (معذبو الأرض، 30).
هنا الأسود أو الملون يتمثل حالة الأبيض المستعمر، والبيضاء تتمثل سلوك الأبيض وتسعى لمشابهته ويبحثان عن عنوان للعدوان المحتوم بتعبير غبسون (14)، ولن يكون هذا العنوان إلا أسود بالتأكيد فهما متماثلان عند هذا المستوى مع سلوك الأبيض. هنا يأتي الاقتراح الرئيس لهذه المقالة، وهو أن "الأم" أم الأسود/الملون تصبح مركزا للعدوان المزدوج، عدوان الأسود بالدرجة الأولى ثم البيضاء، تصبح الأم مجالا لتفريغ العصابين المحتدمين داخل الأسود والبيضاء. وتبرير هذا الاقتراح مركب، نستخدم فيه كلا من فرويد وفانون.
قلنا إن فانون يسلم بالتحليل الفرويدي للعائلة البرجوازية في السياق الأوروبي، فهي تمثل "طريقة معينة يقدم بها الطفل إلى العالم، وأن علاقات وثيقة تقوم بين البنية العائلية والبنية الوطنية القومية... في أوروبا وفي كل البلدان المسماة متحضرة تكون العائلة قطعة من الأمة" (بشرة سوداء، 154)، ويضيف فانون على ذلك قائلا "إن العائلة البيضاء هي مستودع بنية معينة. المجتمع فعلا هو مجمل العائلات. فالعائلة هي مؤسسة تعلن مؤسسة أرحب هي الجماعة الاجتماعية والقومية ... إذ إن العائلة البيضاء هي موضع الإعداد والتأهيل لحياة اجتماعية"(15)، فما الذي يحصل حين يسافر المستعمَر إلى أوروبا للعيش فيها؟ يقول فانون "إن العائلة الأنتيلية لا تقيم عمليا أية علاقة مع البنية القومية، أي الفرنسية، أي الأوروبية، ولا بد للأنتيلي من الاختيار بين عائلته والمجتمع الاوروبي، بتعبير آخر: إن الفرد الذي يصعد إلى المجتمع الأبيض المتحضر يميل إلى نفي العائلة السوداء الهمجية ..." (16).
فانون يقول هنا إن الصعود إلى الحالة البيضاء يفرز ميلا لنفي العائلة السوداء الهمجية، والأم بالنسبة للأسود هي تحديدا امتداد عائلته، وهي من تمنحه عرقه ولونه (17)، بل هي تركيز هذا الأصل الهمجي، وهي أيضا حسب فرويد موضوع حبه الأول، وهذا يكتسب قيمة مضاعفة بالنسبة للبيضاء القادمة من مجتمع وعائلة تشتغل فيها عقدة أوديب، وتتركز الأم كموضوع حب أول للذكر، والأم أيضا بالنسبة للبيضاء هي امتداد الأصل الهمجي للأسود، وموضوع أسود لعدوان البيضاء الذي يحتاج تفريغا.
هنا تصبح الأم مجالا لفعل الأسود في حضرة البيضاء وفعل البيضاء من خلال الأسود. يمضي الأسود نحو "قتل الأم" لتصبح قربانا لإثبات أهلية الأسود للاعتراف وتعبيرا عن انبتاته عن أصله الهمجي ورفضه له، ودليل أقصى على أهليته وأكيد رغبته في أن يكون أبيض وأن يتصرف كأبيض تجاه السود المستعمَرين، يقول فانون: "في ذروة الألم لا يبقى للزنجي المسكين سوى حل وحيد: تقديم الأدلة للآخرين، وخصوصا لنفسه، على بياضه" (بشرة سوداء، 228).
وهذا تحديدا ما يفتح المجال أمام البيضاء للارتباط بالأسود والاعتراف بذاك الأسود الذي لم يعد أسود بعد تقديم برهان تنصله من الأصل الهمجي، محرك الهواجس داخل البيضاء والمتأصل في اللاوعي الجمعي، وبما يسمح بإنشاء علاقة معه هي تكثيف لتخلصها من عقدتها الأوديبية، وهل هنالك أفضل من الزواج من أسود كقتل رمزي للنظام الأبوي بمجمله، الذي جرم العلاقة بين البيضاء والأسود نفسيا وثقافيا واجتماعيا لقرون، يتساءل فانون "لم لا نفكر مثلا أن الأب ينتفض لأن الزنجي بنظره سيدخل ابنته في عالم جنسي لا يملك هو مفاتيحه ولا أسلحته ولا صفاته؟" (بشرة سوداء، 176)، وعلى مقربة من هذا الرهاب المتصل بالقدرات الجنسية، والذي يجعل الأسود محل رغبة بالنسبة للبيضاء، يبدو الأسود أو الملون حين (18) "يقتل أمه" بمثابة أبيض السلوك والثقافة والوعي بذاته (قناع أبيض) مع الاحتفاظ بمقدراته الجنسية محل الإغراء بالنسبة للبيضاء. إن مقترح مفهوم "قتل الأم" على هذا المستوى يشمل مستويات عدة، وأقترح أن فيه طاقة تفسيرية عالية.
قتل الأم
إن تحليل فانون يتركنا أمام حالة مفتوحة على احتمالات غير محددة ولا مذكورة وطاقات كامنة دون تفريغ، ولهذا يبدو "قتل الأم" مُضيا بالتحليل إلى الأمام، وهنا يبرز الطابع الإشكالي لقتل الأم، فهو ليس مجرد فعل نتج عن اللقاء بين البيضاء المهجوسة والأسود المستميت في سبيل نيل الاعتراف، ولا هو فعل بفاعل محدد ومحسوم، بل هو تكثيف لأفعال وحالات نفسية وتبعات نفسية لمجمل السعي نحو التقاء البيضاء المهجوسة بهمجية الأسود والأسود القلق من دونية والمتشكك بأحقيته بالاعتراف مع الحرص على تحقيقه، ويظل ممتدا بما يشمل عقد الذنب اللاحقة ويظل حاضرا مع كل توترات العلاقة وتقلباتها، بل ويمتد حتى يمارس فعلا على سلوك المستعمر أو الأسود أو الملون في بقية حياته. وهذا ما نعمل على توضيحه وإجلائه من خلال تحليل النماذج الروائية.
إن تعبير "قتل الأم" تولد لدينا من تلاقي البحث النظري مع النماذج الأدبية موضوع التحليل، ثم التعديل على المقاربة النظرية وتطبيقها على نماذج عديدة أخرى. ومن الأساسي هنا التركيز على الطابع الشامل للمفهوم، فهو مجموعة عناصر وشروط يؤدي توفرها إلى إمكانية إطلاقه على حالة معينة، ويشمل عملية نفسية واجتماعية مستمرة لا حدثا بعينه أو تطورا نفسيا محددا، ويستدل عليه من تحليل متعدد العناصر والمستويات.
إن قتل الأم هنا مفهوم يراد منه الإشارة إلى ذلك المسار الطويل الذي يقطعه الأسود أو الملون أو المستعمر من بدء سعيه لتحصيل الاعتراف ببياضه، وصولا إلى حالات الشعور بالذنب الذي تلازمه بعد تحصيل الاعتراف، والتي تأخذ أشكالا وتمظهرات مختلفة وفي الغالب لا واعية. والنظر في النماذج التي بين يدينا يساعد في توضيح المفهوم بل وتوضيح كيف توصل الباحث إليه، ويساعد طبعا في تحديده في مستوى متعين قبل المضي إلى استخداماته الرمزية وإحالاته الواسعة.
وإن ما يستدعي تكرارا هنا توضيح موقع الأدب ودوره ضمن جهد هذا البحث، وتوضيح أن ما حاولنا فعله هو السير على منهجية عامة يمكن استخلاصها من اشتغال فرويد وفانون، ومن مجمل التحليل النفسي، فما وفره التحليل النفسي بالدرجة الأولى – ومنجز فرويد- هو تحديد للعصاب والعقد التي يعاني منها الفرد الاوروبي، وشخصها تشخيصا دقيقا في عقدة أوديب.
أما توفُر المقولة في ذهن فرويد نجم عن أو تكرّس بعد تحليله للأدب اليوناني، وتحديدا مسرحية أوديب لسوفوكليس. كان النظر في النصوص هو ما يدعم الفرضية النظرية ويمنحها ثقلا ومقبولية، أي أن النظر المهجوس بالنظرية أدى إلى تثبيتها وبالتأكيد التعديل عليها – التحليل النفسي والأدب فاعل ومفعول في حالة تبادل- وثم تم إعمالها في مساحات التحليل خارج الادب نفسه.
جاء فانون ومن خلال نقده لاشتغال عقدة اوديب في الأنتيل ومن خلال معالجاته السريرية لمرضاه، ليجد أن عصابهم ليس ناجما عن عقدة أوديبية، وإنما هم ابناء مجتمع مقارنة تسيطر عليهم عقدة النقص تجاه المستعمِر، ومحاولتهم أن يصبحوا مثله تجعلهم في حالة بينية، فلا هم هم، ولا هم هو، فينشأ فصام نفسي لديهم، ويحاولون حله من خلال نيل الاعتراف. فانون يستعمل الأدب للتأكيد على فكرته وتثبيتها وسوق الشواهد لها، ومن الأدب – ربما- يصل إلى أفضل التعبيرات عن أفكاره للعلاقة بين الأبيض والأسود، الأبيض والسوداء، البيضاء والأسود. ثم يطبق – كما في حالة فرويد- ما استقاه من الأدب في تفسير خارجه، يطال الأفراد والمجتمع. وهذا ما نحاول العمل وفقه.
روائح ماري كلير وموسم الهجرة إلى الشمال
إن ما نحن معنيون برصده هنا بالدرجة الأولى هو حضور الأم في روايتين أساسيتين، موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح كإحدى كلاسيكيات الدراسات الثقافية والتحليل ما بعد الكولونيالي للأدب عربيا وإفريقيا، وروائح ماري كلير للحبيب السالمي كنموذج مختلف في مقاربة العلاقات الحضارية ويقطع مع إرث طويل في الرواية العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار. والزعم هنا أن تحليل الروايتين في ضوء مقولات البحث ثم مقابلتهما معا ضمن المقولات نفسها، يكتسب قيمة مضاعفة قد لا تتأتى من تحليل أي روايتين عربيتين في سياق انشغالنا هنا. وبيان كيف اشتغلت المقولة النظرية على النصوص وانفعلت بها يحتّم الخوض في هذين النصين، مع التركيز على روائح ماري كلير كونها النموذج المعمق للنظر، والذي أزعم أنه يحمل طاقة تفسيرية عالية وغير عادية لمقاربة العلاقات الحضارية اليوم.
في هاتين الروايتين بدا حضور الأم، متوترا، وكاشفا، ومتصلا بحضور المرأة البيضاء، وجاءت سياقات الحضور مراوحة بين مستوى الوعي واللاوعي، والحضور الحقيقي والحضور المتخيل، وهذا بالنسبة لشخصية الرواية الرئيسة، وارتبط حضور الأم مقترنا بعناصر أخرى ذات دلالة، مع مستوى مختلف في التقنيات السردية واللغة المستخدمة عند تناول الأم أو وصفها أو السرد عنها. إن حضور الأم في هاتين الروايتين ينقسم إلى، مرحلة ما قبل الهجرة/السفر/ الارتحال إلى المركز الكولونيالي، ومرحلة العيش في المركز الاستعماري وتحديدا في بريطانيا (لندن) عند مصطفى سعيد – موسم الهجرة إلى الشمال، و فرنسا (باريس) عند محفوظ – روائح ماري كلير.
المرحلة الأولى تشمل الطفولة والعلاقة المباشرة مع الأم، والثانية تشمل مجمل مرحلة الشباب والرجولة وما بعدها، وتشمل بشكل أساسي الانخراط في حياة المركز الكولونيالي واكتساب اللغة واتقانها والتعلم (نيل درجة الدكتوراه)، وبالتأكيد العلاقة مع المرأة البيضاء، وفي حالة مصطفى سعيد هنالك مرحلة العودة إلى السودان وهي جزء من المرحلة الثانية. وهذا يعني أن حياة سعيد ومحفوظ يمكن أن تقسم إلى قسمين، قبل المرأة البيضاء والسفر إلى المركز الكولونيالي أو العلاقة المباشرة معه، وبعد المرأة البيضاء والسفر إلى المركز الكولونيالي.
حضور الأم في المرحلة الأولى: مشوش وباهت وشبه معدوم أو مُسقط كما يظهر في الرواية لا الواقع، ففي الواقع كان حضورها بالتأكيد واضحا ومركزيا. أما حضورها في المرحلة الثانية فشبه معدوم في الواقع ولكنه قوي ومؤثر ودال في الرواية، والأهم أنه متصل بشكل رئيس بحضور المرأة البيضاء. بمعنى أن حضور الأم في الروايتين في المرحلة الثانية ملازم ومنفعل بحضور المرأة البيضاء.
وهذا يعني في حالة سعيد ومحفوظ أن العلاقة مع المركز الكولونيالي والعلاقة مع البيضاء أثّر على الأم وما يحيل إليها من أرض ووطن ولغة (اللغة الأم والبلد الأم) ولذلك تظهر في السرد مشوشة وباهتة وشبه منسية، ترافق معه أو أعقبه – لا علاقة خطية هنا- اندماج حيوي في العلاقة مع البيضاء والمركز بمختلف مستويات العلاقة، مع تغير في المستوى الثقافي والطبقي فنحن أمام أستاذين في الجامعة في المركز الكولونيالي ومرتبطين ومتزوجين من امرأة بيضاء.
ثم في المرحلة الثانية، عند توتر العلاقة مع المرأة البيضاء أو ظهور توترات نسبية معها ومع المركز وتحديدا في المستوى الثقافي للعلاقة، تبدأ الأم بالظهور بقوة في الروايتين، في حين هي متوفاة في الواقع (الواقع الروائي)، ويزداد وضوح ظهورها في الروايات وتتكثف دلالاته طرديا مع مستوى الأزمة أو التوتر في العلاقة مع المرأة البيضاء. وظهور الأم على هذا المستوى يأخذ تمظهرات شبيهة بأعراض عقدة الذنب. والأمر منسحب على ما تحيل إليه الأم وينحكم ظهوره بشروط ظهورها على هذا المستوى، مثل الوطن واللغة وغيرها.
في الروايتين يمكن تحليل مظاهر الشعور بالدونية والنقص إزاء الأبيض عند كل من سعيد ومحفوظ، والتي تشبه أعراض المصابين بعصاب التخلي كما طرحه فانون. ثم سعيهم الحثيث لنيل الاعتراف بهم كأبيض، واهتدائهم إلى مقاربة الاعتراف بعلاقة مع المرأة البيضاء بمختلف أشكالها (زواج، علاقة عاطفية عابرة، إغواء ثم ممارسة جنسية) إلا أنها في النهاية عن رضا ودون غصب أو إكراه لضمان اعتراف، مع استكمال جملة من الشروط لذلك أهمها تحولهم الثقافي في المركز وتمكنهم اللغوي وتطور سلوكهم بما يذيب رواسب خلفيتهم الثقافية ويجعلهم منسجمين مع الثقافة البيضاء ومكوناتها المختلفة وعلى رأسها اللغة (تصفية العرق بلغة فانون، ربما)، مع رصد هواجس المرأة البيضاء وتوجسها حيالهم وانسجامها مع اللاوعي الأوروبي (العقل الباطن) وكذلك مخيالها حولهم وحول ثقافتهم السابقة على تحولهم لثقافتها البيضاء، مع إضاءة على علاقتها العائلية. ويمكن أن يمضي التحليل مع تطور علاقتهما مع المرأة البيضاء وكل تغيراتها، ثم رصد حالات ظهور الأم مرة أخرى. وصولا إلى حالات التخلي أو التخلي المؤقت أو الحرمان من الجسد الذي تمارسه البيضاء معهم، وكيف تُستدعى الأم مرة أخرى وسط حالة من الاضطراب قوامها الشعور بذنب جراء التضحية بالأم أو التخلي عنها. وهذا الانشغال النظري الذي طور المقولة وأقفلها.
بشكل إجرائي فإن هذا الإسهام النظري قام ويقوم على تحليل حضور الأم، تحليلا نظريا يؤول سياقات الظهور ومعناه ودلالاته وأنماطه وتكراراته في ضوء المقاربة النظرية، ثم النظر في هذا الظهور أو الحضور باستخدام وسائل قياس مقترحة تقابل بين الأم والبيضاء وتحولاتها خلال الرواية بمجملها، مثل: الحضور والغياب، السكون والحركة، الصمت والكلام. وكذلك على مستوى لغة السرد وتقنياته، أي كيف تختلف لغة السرد وتقنيته عند المقابلة بين المواضع التي تشكل الأم موضوع السرد فيها وتلك التي تكون البيضاء موضوع السرد فيها.
من المهم هنا التأكيد أن الأسئلة الأولى عن حضور الأم في الرواية العربية وتوتره ومحاولة اكتشاف أنماط لهذا الحضور أفضت إلى المنهجية والمفهوم، وهما قابلان للتطبيق في الروايات التي تكتمل فيها أركان المفهوم وأطراف علاقاته، أو على مستوى رمزي، تكتمل فيها التمثيلات المقابلة لأركان العلاقات هنا، المستعمَر/ملون/أسود وأمه، والبيضاء/المستعمِرة.
إن بناء المقولة ما كان ليتم لو اكتفينا بتحليل نماذج لا تغلق الحلقة كلها، بل لم يكن الاكتفاء بهذا الحد ممكنا في ضوء المقاربة نفسها والتي تقترح دوما البحث عن استطالات جديدة، وهذا ما وفرته النماذج التي وقع عليها الاختيار للتحليل. ولا يفوتنا الإشارة إلى قيمة التحليل مع نماذج تقوم كلها في شطر من المراحل المذكورة أو تعرض جانبا عابرا منها، ليس المهم حجم ما تغطيه الرواية من حياة شخصياتها أو حجم ما تكشفه او في أي سياق يدور، المهم أن تشتمل على عناصر المقولة الرئيسة وتمثيلاتها لتصبح قابلة للتحليل.
وسنعرض في مقالة منفصلة، اشتغال المقولة النظرية على الروايتين.
هوامش:
1. تم اختصار الشق النظري واختصار المصادر ومواءمة التوثيق ليناسب النشر في جدلية
2. ما فعله فانون كان تطبيق علم النفس الآدلري على الأنتيل، "فالزنوج هم للمقارنة، أي أنهم يهتمون في لحظة بتقويم ذاتي وبمثال الأنا، فهم كلما اتصلوا بالآخر تثار مسألة القيمة، الاستحقاق، ليس للأنتيليين من قيمة خاصة، فهم دوما مدينون لظهور الآخر. (بشرة سوداء، 224)
3. الطبعة المعتمدة هنا هي الصادرة عن دار الفارابي بتعريب خليل أحمد خليل في عام 2004، مع رجوع في بعض الإحالات إلى الترجمة الإنجليزية.
4. هذا عنوان الفصل في كتاب فانون بشرة سوداء، أقنعة بيضاء.
5. ربما يقصد فانون هنا أن التوصيف الهيغلي لعلاقة العبد والسيد ليست المقصودة في هذا المستوى من التحليل، وتحديدا قضية سعي العبد لنيل الاعتراف من السيد، بدل الاعتراف المتبادل، وهذا ما يفرد له فانون نصف فصل "الزنجي والاعتراف به"، وهو بمثابة نقاش فانون لمنطق هيغل حول الاعتراف المتبادل، وتمييز بين العبد عند هيغل والعبد عند فانون (يريد العبد في حالة فانون أن يكون مثل السيد ولذلك هو أقل استقلالا من العبد عند هيغل)، وكذلك الفرق بين السيد في الحالتين، في الأولى السيد القابل لتقديم الاعتراف، وفي الثانية السيد الذي يهزأ من العبد ومن سعيه للاعتراف، فتبادلية هيغل ليست موجودة في حالة الزنوج، وفي تحليل فانون حيث "الزنجي انتقل من نمط حياة إلى نمط حياة آخر وليس من حياة إلى أخرى"، وحيث العرق مركب غير وارد في التحليل الهيغلي. (بشرة سوداء، 233). ويمكن اجمال الموقف هنا يتمثل في قول فانون: إن مأزق العبد الأسود هو أنه يجب أن يتحول لأبيض أو يختفي، وهذا شكل من الاعتراف لم يتصوره هيغل". (فانون المخيلة، 77، 79).
6. لا يمكننا التعامل مع هذه الإشارة على أنها عابرة، بل إن فانون حاله حال معظم محللي الأدب نفسيا مشغولون بسؤال الرواية والسيرة الذاتية، ويبدون مستسلمين أو مصرين على اعتبار أن الروائيين يكتبون أنفسهم، وهذا يمنح تحليلهم قيمة أكبر ولا يتوقف عند كونه تحليلا لنص أدبي بل تحليلا للكاتب نفسه.
7. (بشرة سوداء، 78) نقلا عن رسالة لـ "لويس. ت. آخيل إلى الملتقيات ما بين الأعراق سنة 1949".
8. انظر (بشرة سوداء، 166-183) وفيها يستعرض مطولا نماذج من رهاب السود والزنوج المتصل بقوة بالصورة الجنسية عنهم وتشكل مخيال كامل حول قواهم الجنسية وأعضائهم، ويحللها على مستوى الذكور والإناث منطلقا من قناعة أنه "إذا أردنا فهم وضع عرقي من زاوية التحليل النفسي، لا بوصفه وضعا شموليا بل كما تستشعره الضمائر الخاصة، فلا مناص من إناطة أهمية كبيرة بالظواهر الجنسية" (بشرة سوداء، 171). وهنا يستعرض فانون ايضا نماذج لبحوث اجراها مع نساء بيضاوات حول السائد والمنقول من تصورات عن العلاقة الجنسية مع السود، وينتقل ال مستويات التناول السينمائي وفي موروث النكات والحكايات للتدليل على الصورة المحددة للأسود في ذهن الأبيض. من الطريف هنا كيف يقارب فانون حالة الأسود واليهودي من هذه الزاوية حيث الجنس لدى الأسود يقابله المال لدى اليهودي في سياق مناقشضة خوف الأوروبي منهما.
9. يتفق فرويد وفانون على توق الحضارة الاوروبية اللاعقلاني لعهود غير اعتيادية من الفسوق الجنسي، ويظهر ذلك من خلال أشكال متعددة من الإسقاط الجنسي على السود، "إن الرغبات الأكثر حميمية المقموعة والسادية والمازوشية تحال إلى الخارج ويتم إسقاطها على الأسود" (فانون المخيلة، 61).
10. (فانون المخيلة، 60) "فالعنصري الأبيض الذي أخضع الشعوب الافريقية واستعبدها واستعمرها يحوّل السيطرة إلى فانتازيا جنسية".
11. (بشرة سوداء، 181) ويمكن الاطلاع على عديد النماذج في فصل "الزنجي وعلم النفس المرضي" التي تدور في فلك هذه الصور المتخيلة عن الأسود أو الملون جنسيا، ومنها طول القضيب وحجمه، والأساطير القائلة إن مضاجعة أسود لبيضاء يجعلها لا تكتفي جنسيا إلا من سود، وفعل هنا الخيال الاستشراقي فعله أيضا في تكريس صورة متخيلة عن الشرق أو الجنوب الشهواني.
12. في اللاوعي ترسخت صورة الزنجي الهمجي. (بشرة سوداء، 211)
13. سلوك الأسود يبدو عصابيا حتى حين لا يكون بالضرورة عصابيا حسب فانون
14. إزاء تعديلات فانون المستمرة على منظري التحليل النفسي وتطبيق مفاهيمهم وأدواتهم على المستعمَرين مع جملة تحوطات مستمرة، يعلق غبسون تعليقا لافتا حين يقول: "إن لغة التحليل النفسي تكون أكثر الأحيان مفيدة بوصفها مجازا"، وهذا يوفر هامشا معقولا لتجديد التحليل وتوسيعه ولكن دون إفراط فالاتكاء على المجاز.
15. فانون، 161 وبكلمات ماركوزه "يجري استبطان البنية العائلية في الأنا الأعلى وعكسها في السلوك السياسي" والاجتماعي أيضا حسب فانون
16. فانون، 160-161، يلقي بها إلى الوراء إلى المخيال والجانب اللاشعوري من النفس.
17. تكتسب هذه الجزئية أهمية في المجتمعات الأمومية، وفي الحالة الثقافية العربية لدينا عنترة بن شداد ولونه الذي ورثته إياه أمه وكان مدار صراعه في الحياة.
18. حين هنا لا تفيد ترتيبا زمنيا
19. قد يكون لافتا التشابه بين الشعور بالدونية والشعور بالذنب، المتبوع بالحاجة إلى العقاب. وعلى افتراض أن الذنب هنا متصل بالشعور بالدونية، وهو العرق والأصل والانتماء غير الإرادي إلى الأسرة والشرط الاجتماعي، فلا بد من مذنب، وتبدو الأم هنا موضوعا واردا جدا لتفريغ الحاجة إلى عقاب. ويزيد من هذا التوجيه وجود المرأة الأخرى. ربما بتوجيه واع أو لا واع أو مجرد الوجود يحرك التفريغ باتجاه الأم، المرأة الأولى.
المصادر:
الحبيب السالمي (2008)، روائح ماري كلير، بيروت: دار الآداب.
الطيب صالح (1987)، موسم الهجرة إلى الشمال، بيروت: دار العودة.
فرانز فانون (2004)، بشرة سوداء أقنعة بيضاء، تعريب: خليل أحمد خليل، بيروت: دار الفارابي.
نايجيل غبسون (2013)، فانون والمخيلة - بعد الكولونيالية، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
Frantz Fanon (2008), Black Skin, White Masks, New York: Grove Press.